أسماء النعيمي
قبل سنوات من الآن وقبل ظهور التكنولوجيا وإتاحة وسائلها المتعددة للعموم كنا جميعا نعيش تفاصيل الشهر الفضيل كما ينبغي ،نستشعر روحانيته ونستلذ بطعمه ولا نمل من أيامه، قبل أن تظهر معالم الهلال تجد الجميع منا يتأهب لاستقباله بالدعوات والتهجد والتقرب منه سبحانه حيث كان الشهر الذي يسبقه فرصة لتدريب النفس على الطاعة وتدريب الجسم على قلة الأكل ، والشباب منا تجده يعمل على تزيين المساجد وتنظيفها لتكون جاهزة لاستقبال الأيام الفضيلة وكان أيضا فرصة للصدقة بحيث تجد الجميع متأهب نساءا ورجالا يتقصون أخبار عائلتهم وجيرانهم ليختاروا الأكثر منهم فاقة فيلتمون في مجمع سري ليساهم كلٌّ منهم حسب قدرته في صندوق الصدفة والبركة التي يحصدونها يتم تقسيمها على المحتاجين كي لا بنشغلون بالبحث عن مصدر رزق يسد رمقهم ويتيحوا لهم بذلك فرصة العبادة خلال الشهر الفضيل ، إضافة إلى خياطة لباس يرمز للطقوس الدينية ومنا من يهتم بتحضير الوصفات التقليدية المتعارف عليها والتي تعد جزءا لا يتجزأ من ثقافتنا وهويتنا
وبما أن رمضان يعد فرصة لبدأ نظام صحي معقلن ينهمك الإنسان خلال أولى ساعاته في وضع برنامج خاص به ليتسنى له الإنتفاع من جوه الروحاني في ظل انشغالاته الكثيرة والتزاماته المهنية ،
وكوننا ندرك جميعا الغرض من تفضيل “سيد الأشهر رمضان “الذي خصصه سبحانه وتعالى كي نشعر بإخواننا الذين يعانون الجوع ولكي نحافظ على صحتنا ” صوموا تصحوا ” وجدنا بأن شرطه الأساسي قد اختل في زمن الميديا الذي أصبحت فيه الغالبية تتبع نظام المظاهر الاجتماعية الخداعة بدءا من جعل الأيام التي تسبقه كمسابقة للركض لاقتناص المشتريات وتحضير معظم الوصفات التي غالبا ما يتم تكديسها في المبرد، الوصفات التي لا تمثل هوية مجتمعنا ، وترى معظمنا يتنقل بين الأسواق التي يزيد حجم اكتظاظها خلال هذه المناسبة ليقتني المواد التي تزيد نسبتها عن الأيام العادية وكأنه على وشك الدخول في عام المجاعة.
وحينما يهل الهلال وندخل في أيام الصيام تحدث الكارثة …
الكثير منا يغير برنامجه الغذائي بشكلٍ كلي ، الرجال تجد بعضهم كالمرأة في أشهر حملها الأولى يتشهى كلما لمح منتوجا غذائيا أما النساء تجدهن عالقات في المطبخ منذ الظهيرة تصنع أصنافا مختلفة من المأكولات وكأنها تجهز سفرة لقبيلة بأكملها ، وحينما تنتهي من تزيينها تبدأ في التقاط الصور لتعمل على مشاركتها عبر وسائل الاتصال الحديثة محاولة بذلك تلميع صورة عن حياة الرفاهية التي تنعم بها ،ومساءا تبدأ بالشكوى كونها منهكة ومتعبة لدرجة لا تسمح لها بتأدية فرائضها ، أما الشباب الذين يقضون معظم نهارهم غارقين في النوم وحينما يأتي الليل ويصل وقت التراويح يذهب بعضهم فقط لأخذ صورة من بيت الله ليحدثوا بها قصص صفحاتهم الافتراضية وقبل أن يصل الفقيه لنصف ركعات التراويح تجدهم يهربون خلسة بحجة تعب أقدامهم من الوقوف ، ناهيك عمن يسمون أنفسهم بصناع المحتوى الذين يتفاقم عددهم خلال هذا الشهر الكريم حيث تجدهم يتسابقون على إطلاق مبادرات خيرية للإفطار ويعملون على إقناع متابعيهم بالمساهمة المادية من خلال استغلال عطفهم ورغبتهم للحصول على الأجر في هذه الأيام المباركة ، والفكرة هنا ليست سيئة وإنما الخبيث فيها هم النماذج التي تسترزق من خلال هذه المبادرات ، فالحديث ليس على صناع المحتوى الذين يمتلكون عملا قارا وحينما يطلقون مبادرة معينة يكونون هم أول المساهمين ويكون هدفهم الأساسي هو إدخال الفرحة على قلوب المحتاجين وليس زيادة عدد المتابعين هؤلاء يستحقون كل الدعم حتى وإن عملوا على نشر ذلك مثلهم مثل الجمعيات الخيرية التي تكون مجبرة على النشر والتصوير لأجل إبراء ذمتها مع المسؤولين عن الدعم المادي المقدم ، لكن تلك النماذج من صناع المحتوى الذين يقتاتون من وراء هذه المناسبات ومن وراء فاقة المواطن الضعيف هؤلاء الذين نشاهد فيديوهاتهم عن الأخلاق الإنسانية الخ في حين تراهم يعملون على التقاط صور كل من استفاد من المبادرة دون وجه حق ويتباكون وكأنهم متأثرين بوضع أولئك الفئة الهشة من المجتمع وليلا تجدهم يروجون لحياة الترف من خلال نشر مأكولاتهم ولباسهم والأماكن الفخمة التي يزوروننا للمتابعين في حين أنهم لا يمتلكون عملا قارا يلبي لهم تكلفة ذلك مما يجعل العاقل منا يطرح عشرات الأسئلة حول ذلك والشباب الذي لم ينضج بعد تجده يتحسر على وضعه كلما شاهد فيديوهاتهم التافهة والخالية من الصدق .
أما النوعية الأخرى ممن تتأثر بتلك المظاهر الاجتماعية حتى لو لم تكن لديها القدرة على منافستها تجدها تقحم نفسها في قروض عدة كي تواكب الموجة وتسير على النهج حتى لا يتم تصنيفها مع الفئة التي تلائم شروط الانضمام لعالم السوشيل ميديا …
ومع أننا نعيش في وقتنا الراهن تغيرات جذرية حول القيم والحقوق الانسانية ، إلا أن غالبيتنا وللأسف الشديد مازال عالقا في غفلته مصرا على نوعية الحياة التي أصبح عليها وبالرغم من أننا نرى عبر نفس هذه الوسائل التي غسلت أدمغتنا بتفاهتها مشاهد صادمة في العديد من الدول التي يسكنها إخواننا والتي تعاني المجاعة لكن لا يتعظ إلا البعض منا والبعض الآخر يكتفي بمشاركة معاناتهم عبر صفحته ويعود لتعيش فاصيل يومه ،
ومع كل هته النماذج السلبية في حياتنا والتي ذكرناها هناك شريحة عريضة مشرفة من أفراد مجتمعاتنا العربية لازالت تحافظ على تلك القيم القيم ولازالت تتشبث بالطقوس الرمضانية المُثلى وتنتظر بفارغ الصبر قدوم الشهر الفضيل لتجتهد في الطاعات والصدقات وتغرس في الأجيال الصاعدة الصورة الجميلة حول شهر البركات ، هذه الشريحة من أفرادنا هم القدوة الحقيقية التي مهما تطور الزمن وتغيرت ملامحه يحافظون على الرسالة الانسانية والعمل على نشرها باستعمالها لنفس وسائل الميديا لكن بطريقة ذكية بالتركيز على إيصال صور الجانب الإيجابي ، لذلك الإشكال الحقيق ليس تلك الوسائل ولكن في من يستخدمها …